من وجهة النظر الطبية, تظهر الشقيقة (الصداع النصفي: migraine) كمرض جهازي مركب, يظهر على هيئة توليفات متباينة من الأعراض العصبية, والهضمية, والمستقلة (الأوتونومية). وبرغم أن المكونات العصبية تستأثر بمعظم الاهتمام في التشخيص والعلاج الطبي, فإن وجهات النظر التاريخية - والمعاصرة أحيانا - تخلع على الأعراض الهضمية مكانة مميزة.
ويميل المنظور التاريخي لمتلازمة مثل الشقيقة لوضع جميع الأعراض في الاعتبار نحو تفسير أكثر شمولا للمرض. ولذلك, فقد تلقت الملامح الهضمية الرئيسية للشقيقة اهتماما أكثر بكثير, فيما يتعلق بكل من السببيات والعلاج.
وقد ركزت معالجات الشقيقة في الماضي على الملامح الهضمية مباشرة, من خلال مجموعة كبيرة من المعالجات تشبه الطبيعية بهدف تحسين وظائف الهضم, والتمثيل الغذائي, والإخراج عبر الأمعاء.
أما العلوم الطبية الحديثة, فقد اعترفت بإعادة اكتشاف الارتباط البطني بالشقيقة بصور عدة, أهمها الاعتراف بوجود صورة إكلينيكية مستقلة, أطلق عليها اسم (الشقيقة البطنية), والتي يتم تشخيصها في الأطفال أكثر من الكبار. وقد خلصت الأبحاث المتعددة التي أجريت بهذا الخصوص إلى وجود أدلة مؤكدة على أن الألم البطني المتكرر يعد واحدا من الملامح المبكرة للشقيقة, ويدعم بقوة وجود ارتباط سببي بين الألم البطني الراجع والشقيقة. وقد اكتشفت العلاقة بين الجهاز الهضمي والشقيقة أيضا في صورة حساسية لبعض أنواع الأغذية, فكان المتخصصون في الحسياسية يرون أن التعب, والعوامل العصبية والعاطفية, تحدث تغيرات في الأنشطة الحركية للجهاز الهضمي, مما يؤدي إلى ركود الطعام في الاثنى عشري, ويؤدي ذلك لتشجيع امتصاص مولدات الحساسية, ويستجيب الجسم لذلك بالشعور بالصداع النصفي (الشقيقة). ويذكر أولئك العلماء أن الأنظمة الغذائية الخاصة بالحساسية تؤدي إلى شفاء 5% من المرضى, وإلى تحسن جزئي في 45 من المصابين بالشقيقة.
التوحد ذو الملامح المعوية
يظهر المصابون بالتوحد ثلاثة أنواع من الأعراض, تعطل التفاعل مع المجتمع, ومشكلات متعلقة بالتواصل والتخيل اللفظي وغير اللفظي, ووجود أنشطة واهتمامات شاذة أو محدودة للغاية. وعادة ما تظهر أعراض التوحد خلال السنوات الثلاث الأولى من العمر, وتستمر طوال الحياة. وعلى الرغم من أن هذا المرض لا علاج له حتى الآن, فإن التدبير المناسب له قد يساعد على النمو الطبيعي للطفل, ويقلل من السلوكيات غير المرغوب فيها. وقد أضافت الأبحاث الطبية الحديثة مرض التوحد إلى القائمة المتنامية دوما للأمراض العصبية ذات الملامح البطنية, حيث تؤكد تلك الأبحاث على وجود نمط مميز من التهاب الأمعاء في نسبة كبيرة من الأطفال المصابين بالتوحد. وقد يؤدي فهم العلاقة بين الأمعاء والدماغ في مرضى التوحد إلى مزيد من الفهم لهذا المرض المعوّق.
وقد ظهرت أدلة جديدة على دور العامل المعوي في مرضى التوحد, عندما وجد أن مدة السيكريتين فعالة بصورة مدهشة في علاج التوحد لدى بعض الأطفال, وهي مادة طبيعية يفرزها الجهاز الهضمي لجميع الثدييات. وعادة ما يتم إعطاء السيكريتين عن طريق الحقن الوريدي البطيء, وهو ما يعرف بالتسريب. وقد حصلت هذه المادة على موافقة هيئة الأغذية والأدوية, وهي الجهة المسئولة عن منح التراخيص للأدوية الجديدة في الولايات المتحدة, وذلك لعلاج الاضطرابات الهضمية, على أنها تعتبر علاجا لا يجوز صرفه إلا بموجب وصفة طبية.
المضامين الإكلينيكية
إن احتمال كون أمراض عصبية مثل الصَرَع, والشقيقة, والتوحد, قد تكون ناجمة عن اضطرابات الجهاز الهضمي, يطرح بعض الأسئلة المحيرة فيما يتعلق بالممارسة الطبية الإكلينيكية والأبحاث الأكاديمية. وتتضمن هذه الأسئلة: ما طبيعة المرض? وهل يمكن قياسها? أوإذا ظهر (أو افترض) وجود المرض, فما أفضل السبل العلاجية المتاحة? وهل هناك أي دليل يدعم المعالجات التي تركز على العوامل المرضية في الجهاز الهضمي? وأخيرا... هل يمكن شفاء هذه الأمراض? وللإجابة عن هذه الأسئلة, يدلنا التاريخ على أن العلاج الطبي للصرَعَ والشقيقة في الماضي كثيرا ما كان يضم معالجات موجهة للملامح البطنية لهذه الأمراض. وبصورة خاصة, كان لأبحاث روبنسون تأثير كبير على بعض ممارسي (الطب البديل) - والذي كان لايزال في مهده - في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
وعلى الرغم من أن المعالجة بتقويم العظام قد أصبحت جزءا معروفا من الممارسة الطبية المعاصرة, فإن المبادئ والأساليب المعتمدة من قبل الممارسين التقليديين للمعالجة بتقويم العظام (مثل المعالجة اليدوية, والحمية الغذائية, والمعالجة المائية) قد استخدمت أيضا من قبل العديد من ممارسي بعض فروع الطب البديل, مثل تقويم العمود الفقري باليد, والمعالجة الطبيعية. وقد تلقت هذه الأنماط العلاجية اهتماما متزايدا كمعالجات مكملة للطب التقليدي, فقد استخدمت المعالجة اليدوية في علاج الشقيقة والصرع, واستخدمت الحمية الغذائية في علاج الشقيقة. ويستخدم العلاج المولد للكيتونات بصورة متزايدة في علاج الصرع, كما استخدمت المعالجة المائية وكمادات زيت الخروع على البطن في علاج الصرَعَ والشقيقة.
ماذا بعد?
يمكن تناول الأمراض العصبية ذات الملامح الجهازية (وخصوصا ذات الملامح الهضمية المهمة) من منظور الطب التكميلي, والذي يدرك دور الجهاز العصبي البطني من حيث السببيات والعلاج. وعن طريق التوفيق بين المقاربات التاريخية والإكلينيكية المبنية على أجهزة الجسم المختلفة, وبين الأبحاث الحديثة المتعلقة بالجهاز العصبي المعوي, يمكن خلق أسلوب تكميلي يجمع بين أفضل خصائص الممارسة الطبية الحديثة, مع الأنظمة العلاجية التقليدية والبديلة, والمتوافقة مع الحقائق المؤكدة لعلمي التشريح والفيزيولوجيا (علم وظائف الأعضاء).
وعلى الرغم من أن الصرَعَ والشقيقة من بين الأمراض الشائعة, فإن النمط البطني لكل منهما نادر بصورة عامة, وبناء على المعطيات التاريخية والحديثة المتوافرة لدينا, يمكن القول إن الصرَعَ والشقيقة المجهولي المنشأ يمكن فهمهما بصورة أكبر إذا تم استقصاء الأعراض البطنية لكل منهما بصورة أكثر تفصيلا. وقد لا يكون الصرَعَ والشقيقة البطنيان نادرين في الحقيقة, لكن الطب الحديث يعتبرهما نادري الحدوث لأن قليلا فقط من الاهتمام قد أعطي لفهم معنى الأعراض البطنية المرتبطة بهذه الحالات المرضية.
وربما كانت الأنماط المجهولة المنشأ لكلا المرضين تنطوي على أسباب بطنية, وبالمثل, فإن الجوانب البطنية لمرض التوحد تمثل علامات مميزة لمجموعة فرعية مهمة من هذا الاضطراب الذي يسبب كثيرا من الإعاقة للمصابين به والكثير من الضيق لذويهم.
ويجب أن تركز الأبحاث المستقبلية المتعلقة بمسببات وعلاج هذه الحالات المرضية على اكتناف الجهاز العصبي المعوي فيها. ومن وجهة النظر الإكلينيكية, فقد يشير وجود ملامح بطنية مؤثرة إلى ضرورة أن تشتمل الخطة العلاجية على عناصر تقليدية (مثل الحمية, والمعالجة المائية للقولون العصبي, والمعالجة اليدوية), والتي قد تؤثر بصورة إيجابية على