#1
|
|||||||||
|
|||||||||
ماء الحياة
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته - بكيت حتى ارتويت. - وهل يرتوي المرء من البكاء؟! هي نفسي، حاورتها وداورتها، ولما لم أجد الجواب، انكفأت عليها أحاول أن أستنطق نياط القلب وأزمّة الفؤاد، ولكنها كانت لي بالمرصاد، فوقفتْ على شفير أسئلتي، وراحت تمعن غوصًا في عمق المراد... وما يعني البكاء؟! أهو حزنٌ بلغ ذروته، حتى تصاعد لهيب جذوته، فحوّل خفقاتِ القلب زفرات، ودماءَ الوريد عبرات؟! أم هو حنينٌ قد بلغ مداه، حتى جلجل في الوجدان صداه، وزقزقت بلابل ربيعه وغرّدت على غصن نداه، واستحالت ينابيع صداحه قطرات كوثرٍ ينتعش بها وينثرها عبيرًا عند نجواه؟! أم هو شوقٌ برّح بالمشتاق حتى أراق الصمت، وسكب دقّات الوقت فوق مذبح الحسرات، وتوّجها بإكليل الشوك ليصلب آخر أنفاسه عند جلجلة الحياة؟! أم هو خشوعٌ سجد في فناء رحمة الرحمن، ففاض ألقًا ورفرف ما بين السماء والأرض بجناح الإيمان، فارتقى فوق قمم الملتقى حيث تضمحلّ كلّ الألوان، ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام؟! أم هو عشقٌ لا يحيط به العاشقون، ونورٌ لا يحدّه الحادّون، وانطلاقٌ في فضاء الملكوت نحو الحيّ الذي لا يموت؟! بلى... فالبكاء ليس حزنًا، ولا سوادًا مرصّعًا بلآلئ القلوب، ولا نهايةً تشيّع بها النفس شمسها عند الغروب، بل هو قمةٌ من قمم الشعور، لا يرتقيها إلا من فاض وجدانه وشمخ إنسانه وتداخل في طينه شعاع النور، حتى غدا مجبولًا بمسكٍ منشور، مترقرقًا كالماء الطهور، ينثرها ويرويها من عصارة روحه ريًّا لا تظمأ بعده أبدا. والبكاء شيمةٌ من شيم الإنسان، يتميّز به كما العقل عن الحيوان، إلا أنه محظورٌ على من نُزع من قلبه الخشوع، أولئك الذين يصفهم الخالق في كتابه العزيز بقوله: «... فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهارُ...»(1). والماء، أصل كلّ خلقٍ حيّ، فلا عجب أن يكون البكاء الذي يعتصر ثمار القلب، هو ماء الحياة، به يميز الأفئدة الحية من الميتة، ويسمها بوسام الرقيّ الإنسانيّ، ويطبعها بطابع النقاء الوجدانيّ... ولكن، شتّان ما بين بكاءٍ عارضٍ يذرفه المرء لحادثٍ عابر، فينفّس به عن كربة، أو يعبّر به عن فرحةٍ أو شوقٍ أو حنينٍ أو غربة، وما بين بكاءٍ يغتسل به الفؤاد من أدرانه، وتشرق به الروح فتتطهّر بالمحبة... وأي بكاءٍ ذاك، لا يدانيه في الكون شعور، ولا يعرفه حقّ معرفته إلا من ذاق طعم التغلغل في اللامنظور، حيث تشفّ الأجسام وترقّ الأحلام، حتى تبلغ سدرة المنتهى، صفاءً وقربة. هو ذاك البكاء... تلك الدمعة المقدّسة التي تتصاعد من أديم الكيان الترابيّ، لتتجمّع مع دماء الأوردة في فؤاد عاشقٍ لا كالعشّاق، وتتلبّد سحابًا ماطرًا في سماء مقلةٍ تشتاق اللقاء السرمديّ، فإذا هي تستحيل قطرةً من طهرٍ تنسكب وتُراق فوق نار الفراق، فلا تزيدها إلا لهيبًا لذيذًا ترتوي به الأحداق، ذاك أنها ليست من طين هذه الأرض، بل هي كوثرٌ مزاجه سلسبيلٌ وكافور، ينبثق من عين الزمان ليخترق سجوف العصور، ويمزّق حجب المكان ليصل إلى كل قلبٍ غيور. تلك دمعةٌ كانت مذ كان آدم، لم تقوَ على مسحها وكفكفتها كل المقادير والأزمنة، فهي قطرةٌ من ماء الحياة، تحيا بها القلوب، وتُحلّق بها الأرواح فوق كل الأمكنة، وتصل بالعاصي التائب، والعاشق الذائب، إلى عليين. ومن شيم الدموع أن تنضب، ولكن هذه الدمعة الفريدة متّصلةٌ بمعينٍ كوثريّ ملكوتيّ، ينثال ما بين الأرض وطوبى، مشعشعًا بذاك الحنين الأزليّ الأبدي إلى الحقّ المبين، الذي قدّمته على مذبح كربلاء، سيدة الإباء والفداء، قربان الولاء لإله السماء، هي الدمعة التي تذرفها العيون على سيد الشهداء، بها تتطهّر الروح، وترفرف في العلاء، وتشرق بالعطاء، عطاء الحسين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) (سورة البقرة: 74). اِلـهي هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ اِلَيْكَ، وَاَنِرْ اَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها اِلَيْكَ، حَتّى تَخْرِقَ اَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ اِلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ، وَتَصيرَ اَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ. اِلـهي وَاْجَعَلْني مِمَّنْ نادَيْتَهُ فَاَجابَكَ، وَلاحَظْتَهُ فَصَعِقَ لِجَلالِكَ، فَناجَيْتَهُ سِرّاً وَعَمِلَ لَكَ جَهْراً.
|
|
|
|