أمير المؤمنين استشهادياً :
فداك أبي وأمي ونفسي ومحياي ومماتي يا ليث الحجاز
توفيت السيدة خديجة الكبرى وبعد مدة يسيرة توفي سيدنا أبو طالب، وكانا بمنزلة جناحين لرسول الله، وخيمت الأحزان على قلب الرسول حتى سمي تلك السنة (عام الحزن).
وعند ذلك خلا الجو للمشركين، واستضعفوا النبي لفقدان الناصر، وعزموا على اغتيال النبي وقتله، وإليكم التفصيل:
اجتمع المشركون في دار الندوة وتذاكروا حول قتل النبي (صلّى الله عليه وآله) وتقرر أخيراً أن يجتمع من كل قبيلة رجل واحد ويهجموا على النبي (صلّى الله عليه وآله)، ويقتلوه في بيته، واجتمع أربعون رجلاً من أربعين قبيلة واجتمعوا على باب دار النبي (صلّى الله عليه وآله) ونزل جبرائيل على النبي وأخبره بمكيدة القوم وأمره بالهجرة من مكة إلى المدينة، فأرسل النبي إلى علي وقال له: يا علي إن الروح هبط علي يخبرني أن قريشاً اجتمعت على المكر بي وقتلي وأنه أوحى إلي عن ربي أن أهجر دار قومي وأن أنطلق إلى غار ثور، تحت ليلتي، وأنه أمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي لتخفي بمبيتك عليه أثري فما أنت قائل وصانع؟
فقال علي (): أوَ تسلمنّ بمبيتي هناك يا نبي الله؟ قال: نعم، فتبسم علي () ضاحكاً، وأهوى إلى الأرض ساجداً، شكراً لما أنبأه به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من سلامته، فكان علي () أول من سجد لله شكراً، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الأمة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلما رفع رأسه قال له: امضي لما أمرت، فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت أكون فيه كمسرتك وأقع منه بحيث مرادك، وإن توفيقي إلا بالله، وقال النبي (صلّى الله عليه وآله): أو أن ألقي عليك شبهة مني، أو قال: شبهي، قال: أن يمنعوني نعم، قال: فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي، ثم إني أخبرك يا علي أن الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يا ابن أم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم () والذبيح إسماعيل ()، فصبراً صبراً، فإن رحمة الله قريب من المحسنين، ثم ضمه النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى صدره وبكى إليه وجداً به، وبكى علي () جزعاً على فراق رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
وفي رواية: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ لعلي () ـ : أرضيت أن أُطلب فلا أُوجد وتوجد؟ فلعله أن يبادر إليك الجهال فيقتلوك؟ قال: بلى يا رسول الله رضيت أن يكون روحي لروحك وقاءً ونفسي لنفسك فداء، بل رضيت أن يكون روحي ونفسي فداء أخ لك أو قريب...
وهل أحب الحياة إلا لخدمتك، والتصرف بين أمرك ونهيك، ولمحبة أوليائك ونصرة أصفيائك ومجاهدة أعدائك.
لولا ذلك لما أحببت أن أعيش في هذه الدنيا ساعة واحدة.
وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لعلي () فإذا قضيت ما أمرتك من أمر فكن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وسر إلي لقدوم كتابي عليك، ولا تلبث بعده.
فانطلق النبي إلى الغار، ونام علي في مكانه ولبس برده، فجاء قريش يريدون أن يقتلوا النبي (صلّى الله عليه وآله)، فجعلوا يرمون علياً وهم يرون أنه النبي وكان علي () يتضور (يتلوى) من الألم ولا يتكلم لئلا يعرفوه، وكان القوم يريدون الهجوم على البيت ليلاً، فيمنعهم أبو لهب ويقول لهم: يا قوم إن في هذه الدار نساء بني هاشم وبناتهم، ولا نأمن أن تقع يد خاطئة إذا وقعت الصيحة عليهن، فيبقى ذلك علينا مسبة وعاراً إلى آخر الدهر في العرب.
فجلسوا على الباب حتى طلع الفجر، فتواثبوا إلى الدار شاهرين سيوفهم، وقصدوا نحو مضجع النبي ومعهم خالد بن الوليد، فقال لهم أبو جهل: لا تقعوا به وهو نائم لا يشعر، ولكن ارموه بالأحجار لينتبه بها ثم اقتلوه، أيقظوه ليجد ألم القتل، ويرى السيوف تأخذه!! فرموه بأحجار ثقال صائبة، فكشف عن رأسه، وقال: ما شأنكم؟ فعرفوه، فإذا هو علي () فقال أبو جهل: أما ترون محمداً كيف أبات هذا ونجا بنفسه لتشتغلوا به؟ وينجو محمد، لا تشتغلوا بعلي المخدوع لينجو بهلاكه محمد، وإلا فما منعه أن يبيت في موضعه إن كان ربه يمنع عنه كما يزعم.
ثم قالوا: أين محمد؟ قال: أجعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم: نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم.
فأرادوا أن يضربوه فمنعهم أبو لهب، وقالوا لعلي: أنت كنت تخدعنا منذ الليلة (أي بنومك على فراش النبي خدعتنا وظننا أنك محمد) .
وكان أوحى الله عز وجل إلى جبرائيل وميكائيل: إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كل منهما الحياة، فأوحى الله عز وجل إليهما: ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب؟ آخيت بينه وبين محمد (صلّى الله عليه وآله) فبات على فراشه يفديه بنفسه، ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فنزلا، فكان جبرائيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرائيل يقول: بخ بخ! من مثلك يا بن أبي طالب، يباهي الله بك ملائكته؟؟ فأنزل الله عز وجل على رسوله (صلّى الله عليه وآله) وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي بن أبي طالب () (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد)(سورة البقرة، الآية: 207 ) .
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): نزل علي جبرائيل صبيحة يوم الغار، فقلت: حبيبي جبرائيل أراك فرحاً، فقال: يا محمد وكيف لا أكون كذلك وقد قرت عيني بما أكرم الله به أخاك ووصيك وإمام أمتك علي بن أبي طالب ()، فقلت: بماذا أكرمه الله؟ قال: باهى بعبادته البارحة ملائكته، وقال: ملائكتي! انظروا إلى حجتي في أرضي بعد نبيي وقد بذل نفسه، وعفر خده في التراب تواضعاً لعظمتي، أشهدكم أنه إمام خلقي ومولى بريتي.
علي هو أول من هاجر :
وأما السبق إلى الهجرة، فليس المقصود من الهجرة الانتقال من بلد إلى آخر، ولا يعد هذا فضيلة، فما أكثر المهاجرين! ولعل المقصود من الهجرة هو ترك الوطن وكل ما فيه لله وفي الله، وقد قال تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله)(1) وهذه الآية في شأن المجاهدين الذين يقتلون في سبيل الله والحجاج الذين يموتون في طريق الحج.
واستخلفه الرسول (صلّى الله عليه وآله) لرد الودائع، لأنه كان أميناً، فلما أداها قام على الكعبة فنادى بصوت رفيع: يا أيها الناس هل من صاحب أمانة؟ هل من صاحب وصية؟ هل من عدة له قبل رسول الله؟ فلما لم يأت أحد لحق بالنبي.
وقال ابن شهر آشوب أيضاً: أمره النبي أن يؤدي عنه كل دين وكل وديعة وأوصى إليه بقضاء ديونه، فأذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين فأمرهم أن يتسللوا ويتخففوا ـ إذا ملأ الليل بطن كل واد ـ إلى ذوي طوى، وخرج علي () بفاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، وقد قيل: هي ضباعة، وتبعهم أيمن بن أم أيمن مولى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأبو واقد رسول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم، فقال علي (): ارفق بالنسوة أبا واقد! إنهن من الضعائف، قال: إني أخاف أن يدركنا الطالب ـ أو قال: الطلب ـ فقال علي (): أربع عليك، فإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال لي: يا علي إنهم لن يصلوا من الآن إليك بأمر تكرهه، ثم جعل ـ يعني علياً () ـ يسوق بهن سوقاً رفيقاً وهو يرتجز ويقول:
ليس إلى الله فارفع ظنكا يكفيك رب الناس ما أهمكا
وسار، فلما شارف ضجنان أدركه الطلب سبع فوارس من قريش مستلئمين وثامنهم مولى الحارث بن أمية يدعى جناحا، فأقبل علي () على أيمن وأبي واقد وقد تراءى القوم فقال لهما: أنيخا الإبل وأعقلاها.
وتقدم حتى أنزل النسوة، ودنا القوم فاستقبلهم علي () منتضياً سيفه، فأقبلوا عليه فقالوا: ظننت أنك يا غدار ناج بالنسوة، ارجع لا أبا لك، قال: فإن لم أفعل؟ قالوا: لترجعن راغماً، أو لنرجعن بأكثرك شعراً، وأهون بك من هالك.
ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوروها، فحال علي () بينهم وبينها، فأهوى له جناح بسيفه فراغ علي () عن ضربته، وتختله علي () فضربه على عاتقه، فأسرع السيف مضياً فيه حتى مس كاثبة فرسه، فكان علي () يشد على قدمه شد الفرس، أو الفارس على فرسه، فشد عليهم بسيفه وهو يقول:
خلوا سبيل الجاهد المجاهد آليت لا أعبد غير الواحد
فتصدع القوم عنه، فقالوا له: اغن عنا نفسك يا ابن أبي طالب، قال: فإني منطلق إلى ابن عمي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بيثرب، فمن سره أن أفري لحمه وأهريق دمه فليتبعني، أو فليدن مني، ثم أقبل على صاحبيه أيمن وأبي واقد فقال لهما: أطلقا مطاياكما، ثم سار ظاهراً قاهراً حتى نزل ضجنان، فتلوم بها قدر يومه وليلته، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين، وفيهم أم أيمن مولاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلبثوا هناك هو والفواطم: أمه فاطمة بنت أسد رضي الله عنها، وفاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفاطمة بنت الزبير يصلون لله ليلتهم ويذكرونه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فلم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر، فصلى علي () بهم صلاة الفجر، ثم سار لوجهه، فجعل وهم يصنعون ذلك منزلاً بعد منزل يعبدون الله عز وجل ويرغبون إليه كذلك حتى قدموا المدينة، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً)(3) إلى قوله: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى)(4).
ولما نزل الرسول (صلّى الله عليه وآله) بقباء خارج المدينة بقي ينتظر قدوم علي ()، فقال له أبو بكر: انهض بنا إلى المدينة فإن القوم قد فرحوا بقدومك، وهم يستريثون إقبالك إليهم فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظر علياً، فما أظنه يقدم إليك إلى شهر، فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): كلا، ما أسرعه.
ولست أريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله عز وجل وأحب أهل بيتي إلي فقد وقاني بنفسه من المشركين فبقي النبي (صلّى الله عليه وآله) خمسة عشر يوماً فوافى علي بعياله وقد تفطرت قدماه فاعتنقه النبي وبكى رحمة لما بقدميه من الورم.
وتفل في يديه وأمرهما على قدميه فلم يشتكهما بعد ذلك أبداً.