الدرّ الثمين في عظمة أمير المؤمنين - علیه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله

السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته



فقد قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم :


(إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون )[2] .



باتّفاق المفسّرين أنّها نزلت في أمير المؤمنين عليّ 7.

وقال رسول الله 9 :

«لو أنّ الغياض أقلام والبحر مداد والجنّ حسّاب والإنس كتّاب ، ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب ».

«إنّ الله جعل لأخي عليّ فضائل لا تحصى »[3] .



«لولا أن تقول فيک طوائف من اُمّتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيک اليوم مقالا لا تمرّ بملأ من المسلمين إلّا وأخذوا تراب نعليک وفضل طهورک ويستشفون به »[4] .



يقول الخليل بن أحمد البصري ـالمتوفّى سنة 175 ه ـ واضع علم العروض ومعلّم سيبويه في حقّ أمير المؤمنين عليّ 7 :

«إنّ احتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكلّ ، دليلٌ على أنّه إمام الكلّ ».

وسئل أيضآ: ما هو الدليل على أنّ عليّآ 7 إمام الكلّ في الكلّ ؟ فقال : احتياج الكلّ إليه وغناه عن الكلّ .

يقول الفخر الرازي ـالمتوفّى سنة 606 ه ـ في تفسيره[5] في تفسير سورة



الفاتحة وقوله بالجهر وإقامة الأدلّة على ذلک :

«فالدليل السابع : أنّ الدلائل العقليّة موافقة لنا، وعمل عليّ بن أبي طالب 7 معنا، ومن اتّخذ عليّآ إمامآ لدينه فقد استمسک بالعروة الوثقى في دينه ».

يقول الشيخ محيي الدين بن عربي ـالمتوفّى سنة 638 ه ـ :

«فلم يكن أقرب قبولا في ذلک الهباء إلّا حقيقة محمّد 9 المسمّـاة بالعقل ، وأقرب الناس إليه عليّ بن أبي طالب 2، إمام العالم وسرّ الأنبياء المرسلين »[6] .



قال ابن أبي الحديد المعتزلي ـالمتوفّى سنة 655 ه ـ في شرح قول[7] أمير

المؤمنين 7 حول التمسّک بالأئمة الأطهار من آل محمّد صلوات الله عليهم : «بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم وهم أزمّة الحقّ وأعلام الدين وألسنة الصدق ، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردوهم ورود الهيم العطاش ...».

فقال ابن أبي الحديد :

«(فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن ) تحته سرّ عظيم ، وذلک أنّه أمر المكلّفين بأن يجروا العترة في إجلالها وإعظامها والانقياد لها والطاعة لأوامرها مجرى القرآن . قال : فإن قلت : فهذا القول منه يشعر بأنّ العترة معصومة ، فما قول أصحابكم في ذلک ؟ قلت : نصّ أبو محمّد بن مثنويه في كتاب الكفاية على أنّ عليّآ معصوم ، وأدلّة النصوص قد دلّت على عصمته وأنّ ذلک أمر اختصّ هو به دون غيره من الصحابة ».


هذه بعض النصوص الدالّة على عظمة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب 7 وعلوّ مفامه وشموخه .

هذا وقيمة المرء ما يحسنه من المعرفة ، وأعلى المعارف وأزكاها معرفة الله بأن يعرف الإنسان ربّه ، وأنفعها معرفة النفس ، فمن عرف نفسه فقد عرف ربّه .

فالمعرفة نور القلب وبنيان النبل وبرهان الفضل والفوز بالقدس والحكمة والخير الكثير وميراث التقوى وثمرة الصدق ، ومن عرف دلّته معرفته على العمل ، وأفضلكم أفضلكم معرفة[8] .



فقيمة الإنسان في الدنيا والآخرة إنّما هي بمقدار معرفته ، والمعرفة كلّي مشكّک له مراتب طوليّة وعرضيّة ، وقد قسّموها إلى ثلاث :

1 ـ المعرفة البرهانيّة : والتي تكون بالدليل العقلي .

2 ـ المعرفة الإيمانيّة : والتي تكون بالدليل النقلي من الكتاب والسنّة .

3 ـ المعرفة الشهوديّة : والتي تكون بالإشراق والكشف والشهود بالقلب .

وبنظري هناک تقسيم آخر للمعرفة ، وهو :

1 ـ المعرفة الجلاليّة : وهي تعني معرفة الشيء في حدوده وشكله الهندسي كمعرفة الجبل من بعيد.

2 ـ المعرفة الجماليّة : وهي تعني معرفة الشيء في باطنه وجوهره ، كمعرفة الجبل من قريب .

3 ـ المعرفة الكماليّة : وهي تعني الوقوف على هدف الشيء وغايته ، كمعرفة الجبل لمن كان في قمّته .


وهذه الأقسام جارية في كلّ شيء، حتّى معرفة الله سبحانه وشريعته السمحاء.

فمن الناس من يعرف الله في جلاله ، كنفي صفات النقص عنه كالجهل


والعجز.

ومنهم من يعرف الله في جماله ، وفي صفاته الثبوتيّة كالعلم والقدرة .

ولا يعرف الله في كماله إلّا رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما أبد الآبدين ، كما قال رسول الله 9 لعليّ 7 :

«ما عرف الله إلّا أنا وأنت ».

وأمّا معرفة الشريعة :

فتارةً يعرفها الإنسان في حدودها وأحكامها، فهذه معرفة بجلال الشريعة .

واُخرى يقف على أسرارها وحِكمها، فهذه من المعرفة بجمال الشريعة .

وثالثةً يقف على كُنهها وغاياتها، فهذه من المعرفة بكمال الشريعة .

وهذا جارٍ في معرفة أهل البيت : وسيّدهم أمير المؤمنين عليّ 7، فكلّ الناس يعرفونهم بمعرفة جلاليّة ، كما ورد في زيارة الجامعة الكبيرة عن الإمام الهادي 7 :

«فبلغ الله بكم أشرف محلّ المكرمين وأعلى منازل المقرّبين ، وأرفع درجات المرسلين ، حيث لا يلحقه لاحق ولا يفوقه فائق ، ولا يسبقه سابق ، ولا يطمع في إدراكه طامع ، حتّى لا يبقى ملکٌ مقرّب ولا نبيّ مرسل ولا صدّيق ولا شهيد ولا عالم ولا جاهل ولا دنيّ ولا فاضل ولا مؤمن ولا صالح ولا فاجر طالح ولا جبّار عنيد ولا شيطان مريد ولا خلق فيما بين ذلک شهيد إلّا عرّفهم جلالة أمركم وعظم خطركم وكبر شأنكم وتمام نوركم وصدق مقاعدكم وثبات مقامكم وشرف محلّكم
ومنزلتكم عنده وكرامتكم عليه وخاصّتكم لديه وقرب منزلتكم منه »[9] .



فما من عالم ولا جاهل ولا دنيّ ووضيع ولا فاضل وشريف ولا مؤمن صالح ولا فاجر طالح إلّا وعرف الأئمّة الأطهار : بمعرفةٍ جلاليّة ، بأنّهم الصفوة وأنّهم يجلّون عن الشين والنقائص ، ولا يقاس بهم أحد.

وهذا يقرّ به الموافق والمخالف ، والفضل ما شهدت به الأعداء، فأعداؤهم يشهدون بعلوّ درجاتهم وشموخ مقامهم وأنّهم يمتازون عن باقي البشر في تجلّي أسماء الله فيهم .

وهناک معرفة جماليّة لأهل البيت :، يقف عليها أمثال سلمان المحمّدي رضوان الله عليه ، فإنّه يعرف من جمال أمير المؤمنين ما لا يعرفه أبو ذرّ، مع أنّ التفاوت بينهما في الإيمان بدرجةٍ واحدة ، فعند سلمان عشر درجات ، ولكن مع هذا لو علم أبو ذرّ ما في قلب سلمان لكفّره ولقال رحم الله قاتل سلمان ، فالدرجة الواحدة سعتها ما بين الكفر والإيمان ، ما بين السماوات والأرض .

وأمّا المعرفة الكماليّة لأمير المؤمنين عليّ 7 فيدلّ عليه ما يقال عن الرسول الأعظم 9 :

«يا عليّ لم يعرفک إلّا الله وأنا».

فلا يعرف إلّا الله ورسوله سرّ السرّ في أسرار سرّ الوجود وقطب دائرة الإمكان ، ونقطة باء البسملة ، ومركز العوالم بعد رسول الله، الذي اشتُقّ اسمه المبارک من العليّ الأعلى ، ونوره الأقدس من النور المحمّدي الأنور، فبلغ العلى بكماله ، وكشف الدجى بجماله ، حسُنت جميع خصاله ، فهدى الورى بجلاله ، صلّوا عليه وعلى
ابن عمّه وآله .

فعليّ 7 بشر، لكن تجلّى فيه ربّه وظهر، ومن أبى فقد كفر، فإنّه الإنسان الكامل الذي تجلّت فيه أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، فكان مظهرآ للتوحيد، كما كان فيه خلاصة النبوّة وعصارة الولاية ، وكلّ ما يقال في فضائله ومكارمه وعلوّ مقاماته فإنّه لم يبلغ عشر المعشار.

فعليٌّ وليّ الله وحجّته على خلقه وخليفة رسوله وسيّد أوصيائه ، تجلّت فيه أسماء ربّه ، وحمل جميع أوصاف النبيّ 9 من علومه ومعارفه وأسراره المودعة فيه سوى النبوّة والرسالة ، فهو الداعي والهادي إلى سواء السبيل ، وهو الواسطة المختارة بعد رسول الله في إيصال الفيض الإلهي إلى العباد، وهو النهج المستقيم والمنهاج القويم والنبأ العظيم ، عنده علم الكتاب وفصل الخطاب :

(فاسألوا أهلَ الذكرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمون )[10] .



قال رسول الله 9 :

«من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى يحيى بن زكريا في زهده ، وإلى موسى بن عمران في بطشه ، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب »[11] .



فأمير المؤمنين 7 يمثّل الأنبياء في علومهم وصفاتهم كما هو مظهر أسماء الله وصفاته ، وأنّه جامع الفضائل والمكارم ولا يمكن لأحد سوى الله ورسوله أن يحصي فضائله ومناقبه وآثاره .


وأنّ الأعداء قد كتموا فضائله حنقآ وبغضآ، والأحبّاء أخفوها خوفآ وتقيّةً ، ومع هذا فقد ملأت فضائله الخافقين .

وسعادة الدنيا والآخرة والنجاة إنّما يكون في متابعته وقبول ولايته العظمى ، فهو الصراط المستقيم :

(وَالَّذينَ لا يُؤْمِنونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبون )[12] .



وقال رسول الله 9 :

«إنّ أئمتكم قادتكم إلى الله، فانظروا بمن تقتدون في دينكم وصلاتكم »[13] .



قال تعالى :

(يَوْمَ نَدْعو كُلَّ اُناسٍ بِإمامِهِم )[14] .



وقال الإمام الصادق 7 :

«إذا كان يوم القيامة يأتي النداء من عند الله جلّ جلاله : ألا من ائتمّ بإمام في دار الدنيا فليتبعه إلى حيث شاء ويذهب به ، فحينئذٍ يتبرّأ الذين اتُّبِعو من الذين اتَّبَعوا»[15] .



وقال الإمام الحسين 7 في قوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعو كُلَّ اُناسٍ بِإمامِهِم ) :

إمام دعى إلى هدى فأجابوه إليه ، وإمام دعى إلى ضلالة فأجابوه إليها، هؤلاء في الجنّة وهؤلاء في النار، وهو قوله تعالى : (فَريقٌ في الجَنَّةِ وَفَريقٌ
في السَّعير)[16] .



وقال رسول الله 9 :

«من مات وهو لا يعرف إمامه ، مات ميتةً جاهليّة »[17] ، متّفق عليه عند

الفريقين .

فعلى كلّ مسلم إلى يوم القيامة أن يعرف إمام زمانه حقّ المعرفة .

والإمامة الحقّة والوصاية الصحيحة والحاكميّة الثابتة إنّما هي بنصّ من الله ورسوله ، ولا مجال للناس فيها أبدآ ـكما هو ثابت في محلّه[18] ـ ومن هذا المنطلق نصّ

الله في كتابه الكريم ورسوله في مواطن كثيرة على الأئمة الأطهار والخلفاء الأخيار من بعده كما في حديث الثقلين والسفينة والدار وغيرها المئات والاُلوف ، وكما في آية المودّة والولاية والتطهير والمباهلة وغيرها العشرات والمئات ، وهل بعد الحقّ إلّا الضلال .

وقد صنّف العلماء الأعلام من كلّ الفرق والمذاهب وبلغات كثيرة على مرّ العصور والأحقاب في فضائل أهل البيت : وسيرتهم الطيّبة ، ولا سيّما في مناقب وعظمة أمير المؤمنين وإمام المتّقين عليّ بن أبي طالب 7.

وأخيرآ ـوليس بآخر إن شاء الله تعالى ـ قام الشابّ المهذّب الكامل ثقة الإسلام الشيخ فاضل الفراتي (دام مجده ) بجهدٍ مبرورٍ وسعيٍ مشكور، بتحرير
صفحات ولائيّة ، ومقتطفات علويّة ، في بيان عظمة أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين عليّ 7 من كتب القوم ، لتكون الحجّة أبلغ والبرهان أتمّ ، فجاء باُسلوب جديد واُطروحة جميلة وتأليف ظريف ، يتبع باكورة أعماله (عظمة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء 3)، فللّه درّه ، وعليه أجره ، سائلا المولى القدير أن يهنأه بالكأس الأوفى شربةً لا ظمأ بعدها أبدآ، وأن يكثّر في شباب عصرنا أمثاله ويوفّر أضرابه ، وأن يغفر لي وله وللمؤمنين والمؤمنات وشيعة أمير المؤمنين 7.

والسلام على من اتّبع الهدى .

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .






[1] () طبعت هذه الرسالة سنة 1415 ه مقدّمةً لكتاب (عظمة أمير المؤمنين 7) بقلم الاُستاذفاضل الفراتي .

[2] () المائدة : 55.

[3] () المناقب : 2.

[4] () المناقب : 76.

[5] () مفاتيح الغيب :1 161.

[6] () الفتوحات المكّية :1 132، الباب السادس .

[7] () نهج البلاغة : شرح الخطبة 185.

[8] () هذه النصوص وردت في الروايات ، راجع ميزان الحكمة :6 130.

[9] () مفاتيح الجنان : 547، زيارة الجامعة الكبيرة .

[10] () النحل : 43.

[11] () تأريخ ابن عساكر :2 280.

[12] () المؤمنون : 74.

[13] () البحار :25 110.

[14] () الإسراء: 71.

[15] () البحار :8 867.

[16] () نور الثقلين :3 192.

[17] () البحار :23 77.

[18] () ذكرت تفصيل ذلک في كتاب (أهل البيت : سفينة النجاة )، و(دروس اليقين في معرفةاُصول الدين ) ـوهما مطبوعان ـ، و(هذه هي الولاية )، فراجع

اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين"