![]() |
#3 |
نـــائب المدير
![]() |
![]()
( فصل ) :
فإن قال قائلٌ : لا سبيلَ إلى ردّ حديث الضَّحْضاح وإبطاله ، والطَّعن عليه بخَلْقه وافتعاله ، لأنّ الشيخين قد اتّفقا على إخراجه في (الصحيحين) وهما أصحّ الكتب بعد كتاب الله العزيز بإجماع العلماء ، وتلقَّتْهما الأمّة بالقبول (112) . قلنا : سبحانك اللّهمَّ هذا بُهتانٌ عظيم ، قُتِل الأفّاك الأثيم ، كيف وأنّ هذه دعوىً زائفة وحديث خُرافة ، لا يتفوّه بها إلّا مَن لم يُمْعِنْ نظرَه فيما يقول ، وإنْ عُدَّ صاحبها من الجهابذة الفحول . فقد نقل الحافظ شمس الدين ابن الجَزَريّ في (المَصْعد الأحمد) (113) عن ابن تَيميّة أنّه قال : إنّ الموضوع يُراد به ما يُعلم انتفاء خبره ، وإن كان صاحبه لم يتعمّد الكذب بل أخطأ فيه . قال : وهذا الضَّرْب في المسْنَد - يعني مسند أحمد - منه ، بل وفي سُنَن أبي داود والنّسائيّ وفي صحيح مسلمٍ والبخاريّ أيضاً ألفاظٌ في بعض الأحاديث من هذا الباب (اهـ) . وصرّح ابن حَزْمٍ وجماعة بوضع الحديث الذي رواه مسلم من طريق عِكْرِمَة ابن عمّارٍ ، عن أبي زُمَيْلٍ ، عن ابن عبّاسٍ قال : كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يُقاعدونه ، فقال للنبيّ صلى الله عليه وآله : يا نبيَّ الله ، ثلاثٌ أعطنيهنّ ، قال : نعم ، قال : عندي أحسن العرب وأجمله أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان أُزوّجكها ، قال : نعم . . الحديث . فهذا مخالفٌ لما ثبت بالتواتر أنّ اُمّ حبيبة تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وآله قبل إظهار أبي سفيان للإسلام ، زوّجها إيّاه النجاشيّ وهي في الحبشة ، ثمّ قَدِمَت على رسول الله صلى الله عليه وآله قبل أن يُظهر أبوها الإسلام ، لا خلاف بين أهل السِّيَر في ذلك (114) . قال الحافظ أبو الفيض شهاب الدين أحمد بن الصِّدِّيق : والحقّ أنّه موضوعٌ حصل عن سهوٍ وغلطٍ ، لا عن قَصْدٍ وتعمّدٍ ، والموضوع الذي من هذا القبيل موجودٌ في الصحيحين (115) (اهـ) . وحديث الإسراء الذي رواه الشيخان من رواية شَريكٍ ؛ فيه زياداتٌ باطلة مخالفة لما رواه الجمهور ، وَهَمَ فيها شَريكٌ ، إلّا أنّ مسلماً ساق إسناده ولم يسُق لفظَه . وأخرج البخاريّ من حديث أبي هريرة مرفوعاً : يلقى إبراهيمعليه السلام أباه آزَرَ يوم القيامة وعلى وجه آزَرَ قَتَرَةٌ وغَبَرَةٌ - الحديث ، وفيه : فيقول إبراهيم : ياربّ ، إنّك وعدْتني أنْ لا تُخْزيَني يومَ يُبعثون ، فأيّ خزيٍّ أخزى من أبي . وقد طعنوا فيه بأنّه مخالفٌ لقوله تعالى : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِِ تَبَرَّأَ مِنْهُ (116) } . وقال الإسماعيليّ : هذا خبرٌ في صحّته نظر ، من جهة أنّ إبراهيمعليه السلام عَلِمَ أنّ الله لا يُخلف الميعاد ، فكيف يجعل ما صار لأبيه خزياً ، مع علمه بذلك؟ وأخرج مسلم عن أبي هريرة أيضاً : خلق الله التربة يوم السبت ، وذكر باقي الأيّام ، وقد حكموا بوضعه لمخالفته نصَّ القرآن في أنّ الخلق كان في ستّة أيّامٍ لا في سبعةٍ ، ولإجماع أهل الأخبار على أنّ السبت لم يُخْلَقْ فيه شيءٌ ، وقد بيّن علّته البيهقيّ في (الأسماء والصفات) وأشار إلى بعضها ابن كثيرٍ في تفسير سورة البقرة ، وأنّه ممّا غلط فيه بعض الرواة فرفعه ، وإنّما سمعه أبو هريرة من كعب الأحبار . إلى غير ذلك من أَحْرُفٍ وقعت في (الصحيحين) من هذا القبيل ، ترى الكثير منها في كلام ابن حزمٍ على الأحاديث (117) . ونحن قد تكلّمنا على حديث السُّباطة وحديث سحر النبيّ صلى الله عليه وآله - وهما في الصحيحين - في جزءَيْن مُفْردَيْن ، وبيَّنّا بطلانَهما وعدمَ صحّتهما ، فالله المستعان . وصرّح الإمام الحافظ أبو الفيض شهاب الدين أحمد بن محمد بن الصدِّيق الحسنيّ الغُماريّ المغربيّ في خاتمة كتابه (المُغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير) (118) : بأنّ في أحاديث الصحيحين ما هو مقطوعٌ ببطلانه . قال : ولا تَتَهيَّب الحكمَ عليه بالوضع لما يذكرونه من الإجماع على صحّة ما فيهما ، فإنّها دعوىً فارغةٌ لا تثبت عند البحث والتمحيص ، فإنّ الإجماع على صحّة جميع أحاديث الصحيحين غير معقولٍ ولا مقبول . قال : وليس معنى هذا أنّ أحاديثهما ضعيفة أو باطلة ، أو يوجد فيها ذلك بكثرةٍ كغيرهما من المصنَّفات في الحديث ، بل المراد أنّه يوجد فيهما أحاديث غير صحيحةٍ ، لمخالفتها للواقع ، وإن كان سندها صحيحاً على شرطهما ، وقد يوجد من بينها ما هو على خلاف شرطهما أيضاً - كما هو مبسوطٌ في محلّه - (انتهى) . ولسيّدنا الإمام الشريف ابن شرف الدين العامليّ رحمه الله تعالى سَبْرٌ عميقٌ - في بعض مصنّفاته - لجملةٍ من أحاديث الصحيحين الواردة من طريق أبي هريرة وغيره ، فينبغي لبُغاة الحقّ وأرباب العلم والفضل الوقوف على ذلك ، والله الموفّق والمستعان . هذه نُبذة يسيرة ممّا يتعلّق بمتون أحاديث الصحيحين . وأمّا أسانيدها ، فقد يوجد من بينها ما هو على خلاف شرط البخاريّ ومسلم - كما مرّ آنفاً في كلام الحافظ ابن الصِّدِّيق - بل في رجال الصحيحين من رُمي بالكذب والوضع وتحريف حديث الرسول صلى الله عليه وآله بل فيهم فسّاق ، زنادقة لا إسلامَ ولا ا يمانَ ، فضلاً عن العدالة في الرواية (119) . فمعاذَ الله أن يكون الكتاب الذي فيه حديث حَريز بن عثمان وعمران بن حَطّان من الكتب المقتصرة على الصحيح ، ولو أجمع على ذلك الجنّ كما أجمع عليه البشر ، كذا أفاد شيخنا العلّامة المحدّث أبو اليسر جمال الدين عبد العزيز بن الصِّدِّيق في (الباحث) (120) . قال رحمه الله تعالى : ومن رجع إلى ترجمة حَريز بن عثمان يعرف ما نقول ، ويتحقّق أنّ حديث الملعون ينبغي أنْ يُذكر في (الموضوعات) لابن الجوزيّ (اهـ) . ( فصل ) : وهنا أمورٌ أخرى تحظُر التمسّكَ بهذه الأحاديث ، وتمنع اللَّبيب من الرُّكون إليها والتعويل عليها . (الأوّل) : أنّ أحاديث الباب مضطربة ، ففي بعضها أنّه صلى الله عليه وآله وجد عمّه أبا طالبٍ في غَمَراتٍ من النار فأخرجه إلى ضَحْضاحٍ منها ، وأنّه لولاه صلى الله عليه وآله لكان في الدَّرْك الأسفل من النار ، وهذا ظاهرٌ جدّاً في أنّ شفاعة النبيّ صلى الله عليه وآله لعمّه بتخفيف العذاب عنه وإخراجه إلى الضَّحْضاح قد تحقّق في هذه الدُّنيا . وهو ينافي ما في بعض الأحاديث ا لأُخْرى من رجائِه صلى الله عليه وآله أن تنفعه شفاعتُه يوم القيامة فيُجعل في ضَحْضاحٍ من النار يبلغ كعبَيْه يغلي منه دِماغه ، أي أنّ ذلك لم يَقَعْ بَعْدُ ، وإنّما سيكون بشفاعته صلى الله عليه وآله له يومَ القيامة ، فكيف الجمع والتوفيق بينهما ؟ (الثاني) : أنّ الأمّة متّفقةٌ على أنّ الآخرة ليس فيها نارٌ سوى الجنّة والنار ، فالمؤمن يُدخله الله الجنّة ، والكافر يُدخله الله النار . فإن كان أبو طالبٍ كافراً - على ما يقوله المخالف - فما بالُه يكون في ضَحْضاحٍ من نارٍ من بين الكفّار ، ولم تُجعل له نارٌ وحده من بين الخلائق. والقرآن متضمِّنٌ أنّ الكافر يستحقّ التأبيد والخلود في النار ؟ فإن قيل : إنّما جُعل في ضَحْضاحٍ من نارٍ لتربيته للنبيّ صلى الله عليه وآله وذَبِّه عنه ، وشفقته عليه ، ونَصْره إيّاه . قلنا : تربية النبيّ صلى الله عليه وآله والذبّ عنه وشفقته عليه والنصرة له طاعةٌ للَّه تعالى يستحقّ في مقابلها الثواب الدائم ، فإن كان أبو طالبٍ فعَلها وهو مؤمن فما بالُه لا يكون في الجنّة كغيره من المؤمنين . وإن كان فَعَلها وهو كافرٌ فإنّها غير نافعةٍ له ، لأنّ الكافر إذا فعل فعلاً للَّه تعالى فيه طاعة لا يستحقّ عليه ثواباً ، لأنّه لم يُوقِعْه لوجهه متقرِّباً به إلى الله تعالى ، من حيث إنّه لم يعرف الله تعالى ليتقرَّبَ إليه ، فيجب أن يكون عمله غير نافعٍ له ، فما استحقّ أن يُجعل في ضَحْضاحٍ من نارٍ . فهو إمّا مؤمنٌ يستحقّ الجنّة - كما نقول - وإمّا كافرٌ يستحقّ التأبيد في الدَّرْك الأسفل من النارعلى وجه الاستحقاق والهَوان كغيره من الكفّار، وهذا لايقوله مخالفنا. وقد أبطلنا أن يكون في ضَحْضاحٍ من نارٍ ، فلم يبق إلّا أن يكون في الجنّة - كما أفاد الإمام شمس الدين فخّار بن مَعَدٍّ رحمه الله (121) . وأيضاً فإنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قد علّق الشفاعة لعمّه رضي الله تعالى عنه - عند موته - بالنطق بكلمة الإخلاص ، فقال له : قل كلمةً تجب لك بها الشفاعة يومَ القيامة ، قل : لا إله إلّا الله (122) ، بل قد أناط بها مطلقَ الشفاعة - كما في أحاديث كثيرة - . فالمنفيُّ عند انتفاء الشفاعة جنسُ الشفاعة ، بمعنى عدمها بالكلّيّة ؛ لعدم أهليّة الكافر لها حتّى في بعض مراتب العذاب ، فالشفاعة للتخفيف في العذاب من مراتبها المنفيّة ، فافهم (123) . (الثالث) : أنّ الكافر ليس أهلاً للشفاعة مطلقاً ، كما قال سبحانه : { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (124) } وقال عزّ من قائلٍ : { فما تنفعهم شفاعةُ الشافعين } وإنّما هي لأهل لا إله إلّا الله ، ولمن مات لا يُشرك بربّه شيئاً (125) ، فلا تنال الشفاعة مُشْرِكاً ، ولذلك يُخلَّد الكفّارُ في نار جهنّم أعاذنا الله منها { لا يُخَفَّفُ عنهم العذابُ ولا هم يُنْظَرون } { ولا هم يُنصرون } { لهم شرابٌ من حميمٍ وعذابٌ أليمٌ بما كانوا يكفرون } . فإذا كان أبو طالبٍ قد مات كافراً - كما يزعم الخصم - فإنّه لا يُخفَّف عنه شيءٌ من عذاب جهنّم ، ولا يُخرَج من الدَّرْك الأسفل من النار إلى ضحضاحٍ منها ، ولا كان النبيّ صلى الله عليه وآله يسأل ربّه ما لا يكون . ولكن قد ثبت بحديث الضحضاح قبول شفاعته صلى الله عليه وآله في عمّه بتخفيف العذاب عنه وإخراجه من غَمَرات النار ، فدلّ ذلك على عدم إشراكه . فيلزم منه بطلان هذه الأحاديث ، لمناقضتها لهذا الأصل المتقرِّر الذي لا مَحِيدَ عنه ، وما هذا شأنه يُردُّ ولا كرامَةَ (126) . ( فصل ) : ويردّ هذه الأحاديثَ ويدفعها اتّفاقُ أئمّة أهل البيت النبويّ الطاهر عليهم الصلاة والسلام ، وإجماع شيعتهم - تبعاً لهم (127) - على إثبات سِمَة الإيمان لأبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه وأرضاه والقول بنجاته ، وإنكارهم حديثَ الضَّحْضاح ، وعدّهم إيّاه من الموضوعات القِباح . وإجماعهم عليهم السلام حُجّة بلا ريب ، لآية التطهير ، وحديث الثقلين المتواتر ، وحديث السفينة ، وغير ذلك من الأدلّة المقرَّرة في محلّها (128) ، فحديثٌ يخالفُ الإجماعَ القطعيّ يُضرب به عرض الجدار ولا كرامَة . ونحن نقتصر في هذا المختصر على سَرْد ما ورد عنهم عليهم السلام في ردّ حديث الضَّحْضاح وإبطاله ، ونكتفي بذلك في الدلالة على وضعه وافتعاله ، دون ما روي في ثبوت إسلام شيخ الأباطح وصحّة إيمانه ، فإنّ ذلك مقرَّرٌ مبسوطٌ في مظانّه ، فنقول - وبالله تعالى التوفيق - : أخرج الشيخ العلّامة أبو الفتح الكراجكيّ رحمه الله في (كنز الفوائد) (129) بإسناده عن أبي عبد الله ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم السلام : أنّه كان ذاتَ يومٍ جالساً في الرَّحْبة والناس حوله ، فقام إليه رجلٌ فقال له : يا أمير المؤمنين ، إنّك بالمكان الذي أنزلك الله ، وأبوك معذَّبٌ في النار ؟ فقال له : مَهْ ، فَضَّ الله فاكَ ، والذي بعثَ محمّداً صلى الله عليه وآله بالحقّ نبيّاً لو شفع أبي في كلّ مذنبٍ على وجه الأرض لشفّعه الله ، أأبي يُعذَّب بالنار وابنهُ قسيم الجنّة والنار ؟! الحديث . وأخرج الإمام شمس الدين فخّار بن مَعَدٍّ العلوي رحمه الله تعالى في كتاب (الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالبٍ) (130) بإسناده عن أبي بصيرٍ - ليث المراديّ - قال : قلت لأبي جعفرٍ عليه السلام : سيّدي : إنّ الناس يقولون : إنّ أبا طالبٍ في ضَحْضاح من نارٍ يغلي منه دِماغه ، فقالعليه السلام : كذبوا والله ، إنّ إيمان أبي طالبٍ لو وُضِعَ في كفّة ميزانٍ وإيمان هذا الخلق في كفّة ميزانٍ لَرَجَح إيمان أبي طالبٍ على إيمانهم ، ثمّ قال : كان - والله - أميرُ المؤمنين يأمر أنْ يُحجَّ عن أب النبيّ صلى الله عليه وآله وأُمّه ، وعن أبي طالبٍ ؛ في حياته ، ولقد أوصى في وصيّته بالحجّ عنهم بعد مماته . وأخرج الكراجكيّ أيضاً في (كنز الفوائد) (131) بإسناده إلى أبان بن محمّدٍ ، عن يونس بن نُباتة ، عن أبي عبد اللهعليه السلام أنّه قال : يا يونس ، ما يقول الناس في أبي طالبٍ ؟ قلتُ : جُعلت فداك ، يقولون : هو في ضَحْضاح من نارٍ ، وفي رجلَيْه نعلان من نارٍ تغلي منها أُمّ رأسه ، فقال : كَذَبَ أعداءُ الله ، إنّ أبا طالبٍ من رفقاء النبيّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين { وحَسُنَ أولئكَ رفيقاً } . وأخرج ابن مَعَدٍّ رحمه الله أيضاً بإسناده عن عبد الرحمن بن كثيرٍ ، قال : قلت لأبي عبد اللهعليه السلام : إنّ الناس يزعمون أنّ أبا طالبٍ في ضَحْضاحٍ من نارٍ ، فقال : كذبوا ، ما بهذا نزل جبرئيل على النبيّ صلى الله عليه وآله قلت : وبما نزل ؟ قال : أتى جبرئيلُ في بعض ما كان عليه فقال : يا محمّد ، إنّ ربّك يقرؤك السلام ويقول لك : إنّ أصحاب الكهف أَسَرُّوا الإيمان وأظهروا الشِّرك ، فآتاهم الله أجرَهم مرّتين ، وإنّ أبا طالبٍ أَسَرَّ الإيمان وأظهر الشِّركَ فآتاه الله أجرَه مرّتين ، وما خرج من الدُّنيا حتّى أتته البشارة من الله تعالى بالجنّة ، ثمّ قال : كيف يَصِفُونَه بهذا الملاعين وقد نزل جبرئيلُ ليلة مات أبو طالبٍ ، فقال : يا محمّد ، اخْرُج من مكّة ، فما لك بها ناصرٌ بعد أبيطالبٍ (132) . وأخرج أيضاً بإسناده عن عبد العظيم بن عبد الله العلويّ الحسنيّ أنّه كتب إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام : عَرِّفْني يا ابن رسول الله عن الخبر المرويّ أنّ أبا طالبٍ في ضَحْضاحٍ من نارٍ يغلي منه دِماغه ، فكتب إليه الرضا عليه السلام : بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعدُ : فإنّك إنْ شككتَ في إيمان أبي طالبٍ كان مصيرُك إلى النار (133) . فهذا غَيْضٌ من فيضٍ من شهادة أئمّة أهل البيت وسادات المسلمين بإيمان أبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه ، وتكذيب حديث ا لضَّحْضاح ، وهم الذين قَرَنَهم النبيّ صلى الله عليه وآله بكتاب الله تعالى دلالةً على كون التمسّك بهم مُنْقِذاً من الضَّلالة ، وهم مَعْدن العلوم اللَّدُنيّة ، والأسرار والحكم العَلِيَّة ، والأحكام الشرعيّة ، ولذا حَثَ صلى الله عليه وآله على الاقتداء والتمسّك بهم والتعلّم منهم وقال : الحمد للَّه الذي جعل فينا الحكمةَ أهلَ البيت (134) ، فيلزم العمل بروايتهم والاعتماد على مقالتهم (135) { فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } . ( فصل ) : واعلم - أرشدك الله - أنّ الإماميّة لم تنفرد بالقول بإيمان أبي طالبٍ شيخ البطحاء ، وسيّد مُضَر الحمراء ، بل وافقهم عليه غيرهم من أهل الإسلام ، فقد قالت أكثر الزيديّة : ما مات أبو طالبٍ إلّا مسلماً (136) ، وبذلك قال بعض شيوخ المعتزلة منهم الشيخ أبو القاسم البلخيّ وأبو جعفرٍ الإسكافيّ وغيرهما (137) . وهو أيضاً مذهب كثيرٍ من العلماء المحقّقين ، والأولياء العارفين أربابِ الكَشْف ، منهم القُرْطُبيّ والسُبْكيّ والشَّعْرانيّ وخلائق كثيرون ، وقالوا : هذا الذي نعتقده ونَدين الله به . قال شيخ الإسلام العلّامة ابن دَحْلان : فقول هؤلاء الأئمّة بنجاته أَسْلَمُ للعبد عند الله تعالى ، لاسيّما مع قيام الدلائل والبراهين التي أثبتها العلّامة البرزنجيّ (138) (اهـ) . وحُكي القول بنجاته رضي الله تعالى عنه عن سبط ابن الجوزيّ الحنفيّ في (تذكرة الخواصّ) والقَرافيّ في (شرح التنقيح) والشِّنْواني في حاشيته على (شرح الفاكهانيّ) والتِّلِّمْسانيّ والسّحيميّ والبرماويّ والشِّبْراويّ وابن طاهرٍ وأبي السُّعود والعلّامة الشيخ علي الأجْهُوريّ المالكيّ . وذكر الإمام أحمد بن الحسين الموصليّ الحنفيّ المشهور بابن وحْشيّ في (شرح الشهاب) : أنّ بغض أبي طالبٍ كفرٌ ، ونصّ على ذلك من أئمّة المالكيّة الشيخ عليّ الأجْهُوريّ في (فتاويه) والتِّلِّمْسانيّ في حاشيته على (الشِّفا) فقال عند ذكر أبي طالبٍ : ينبغي أن لا يُذكر إلّا بحماية النبيّ صلى الله عليه وآله لأنّه حماه ونصره بقوله وفعله ، وفي ذِكْره بمكروهٍ أذيَّةُ النبيّ صلى الله عليه وآله ومُؤْذي النبيّ كافرٌ ، والكافر يُقتل . وقال أبو الطاهر : من أبغض أبا طالبٍ فهو كافر (139) (اهـ) . وقال العلّامة ابن معصومٍ المدنيّ رحمه الله (140) : سُئل العارف بالله السيّد الجليل مولانا السيّد عبد الرحمن بن أحمد الحسنيّ الإدريسيّ المغربيّ نزيل مكّة المشرّفة - وكان من أرباب الحال ، وأقطاب الرجال - عن إسلام أبي طالبٍ فأمْلى ما صورته : اعلم - قرّبك الله منه ، ورزقك كمال الفهم عنه - أنّ أبا طالبٍ قد قال بإيمانه جمعٌ من أهل الكشف والشُّهود ، ووردت أحاديثُ تشهد بإسلامه ، أوردها الحافظ ابن حجرٍ في (الإصابة) وتكلّم عليها (اهـ) . وقال العلّامة أبو الثناء شهاب الدين الآلوسيّ الحنفيّ البغداديّ في (روح المعاني) (141) : إنّه على القول بعدم إسلامه لا ينبغي سبّه ولا التكلّم فيه بفضول الكلام ، فإنّ ذلك ممّا يتأذّى به العلويّون ، بل لا يبعد أن يكون ممّا يتأذّى به النبيّ عليه وعلى آله الصلاة والسلام الذي نطقت الآية - يعني قولَه تعالى : { إنّك لا تَهْدي مَن أَحْبَبْتَ } بحبّه إيّاه (اهـ) . وذهب إلى القول بإسلامه ونجاته العلّامة المفتي السيّد محمّد سعيد العَرْفيّ في شرحه على (رياض الصالحين) (142) . وكانالعلّامة الشريف عبد الحيّ بن محمّد بن الصِّدِّيق الحسنيّ الغُماريّ الطَّنْجيّ المغربيّ يُجاهر بالقول بنجاة أبيطالبٍ وإيمانه وإسلامه رضي الله تعالى عنه وأرضاه. وقال الشيخ أبو العبّاس أحمد بن محمّد مُرسي : أنا أعتقد إيمانه كما سمعتُ من شيخي الشيخ محمّد راشد ، مستدلّاً بأدلّةٍ عظيمةٍ مُقْنعةٍ ، ثمّ سمعتُ ما أعجبني وأطْربَني من شيخي إمام العارفين السيّد محمّد أمين [الكرديّ] البغداديّ ما يؤيّد ذلك (143) (اهـ) . قلت : ولمتقدِّمي علمائهم ومتأخِّريهم مؤلّفاتٌ ومصنّفاتٌ (144) شَيَّدوا فيها البراهين القواطع ، وأقاموا الأدلّة السَّواطع على إيمان أبي طالب ، ونجاته من العذاب الواصِب . فإذا كان الحال على ما وصفنا ؛ تحقّقتَ أنّ مِن القوم مَن لم يَحْتفل بحديث الضَّحْضاح ، بل في إعراضه عنه إشعارٌ بأنّه من الأكاذيب الصُّراح . وبذلك يتبيّن لك ما في إفكهم الواضح وبُهتانهم الفاضح من دعوى إجماع هذه الأمّة المرحومة على تلقّي ما في الصحيحين بالقبول ، إذ كيف يجتمع هذا مع مخالفة شَطْر المسلمين - وهم شيعة آل محمّدٍ صلى الله عليه وآله وغيرهم من أهل المذاهب - لحديث الباب ، نبّؤونا يا أُولي الألباب ؟! ( الخاتمة ) : |
![]() ![]() |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|