فاذا كان عامّة الناس ينامون الليل كلّه كما تنام البهائم ، فكانوا كالأنعام في مأكلهم ومشربهم ونومهم ومنكحهم ، فان خيار الاُمّة وصلحائها وعلمائها الأبرار يقومون الليل بالعبادة والبكاء وصلاة الليل وتلاوة القرآن والأدعية والزيارات والأوراد والأذكار، وطلب العلم والمرابطة في سبيل الله، ومن طلب الُعلى سهر الليالي ، فيعرجون في ليلهم إلى قاب قوسين أو أدنى ويسيحون في علم الله وحكمته وألطافه وأسرار كونه ، وما وراء الطبيعة وما فيها، فتبتهج أرواحهم ، وتتعلّق بعزّ الله سبحانه ، وتفتح أبصار قلوبهم ، حتّى يرون ملكوت وغيب السماوات والأرض ، ربنا ما خلقت هذا باطلاً، سبحانک إنّک أنت الحميد المجيد، كلّ هذا وهذا غيض من فيض ، إنّما هو من بركات قيام الليل ، وما أدراک ما قيام الليل بالعبادة والقرب إلى الله سبحانه ، فدونک دونک قيام الليل بطاعة الله ورضوانه .
19 ـ ورد عن أميرالمؤمنين علي 7 عند ما دخل إلى مسجد الكوفة سحر ليلة التاسع عشر من شهر رمضان ، ورأى ابن ملجم اللعين قد نام على وجهه وبطنه فأخبره أنّ مثل هذه النومة نومة الشياطين ، ومن نام على يمينه فهي نومة المؤمننين ، ومن نام عن يساره فهي نومة الأطباء، ومن نام مستلقياً، فهي نومة الأنبياء :، وقد ورد هذا المعنى في روايات اُخرى .
20 ـ دخل رسول الله 6 على إبنته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء وقد فرشت فراش النوم ، وأرادت أن تنام فقال لها لا تنامي يا فاطمة حتّى تفعلي أربعة من الأعمال : أن تختمي القرآن الكريم ، ويشفع لکِ الأنبياء، ويرضى عنک المؤمنون ، وتحجّي بيت الله الحرام بحجّة وعمرة .
ثمّ قام يصلّي وبعد أن فرغ من صلاته ، سألته إبنته كيف يكون ذلک يا أبتاه ؟ فتبسّم النبي 6 وقال :
ـ إذا قرأت سورة الاخلاص ثلاث مرات ، فانه يكتب لک ثواب ختم القرآن الكريم .
ـ وإن صلّيت عليّ وعلى الأنبياء من قبلک كانوا شفعاؤکِ يوم القيامة .
ـ وإن استغفرت للمؤمنين والمؤمنات فانهم رضوا عنکِ .
ـ وإن قلت مرّة واحدة (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر) فانّه يكتب لک حجّة وعمرة .
أيُّها المؤمن وايّتها المؤمنه بالله عليكما مع هذا الثواب العظيم والأجر الجسيم والمنافع والآثار الدنيويّة والاخرويّة ، هل يحق لأحد منّا أن ينام من دون أن يأتي بهذه الأعمال القليلة خالصاً ومخلصاً لله سبحانه وتعالى ، فانه يقرء سورة التوحيد (قل هو الله أحد) ثلاث مرات ثم يقول (اللهمّ صلّ على الأنبياء والمرسلين وخاتمهم محمّد) ثمّ يقول (اللهم اغفر للؤمنين والمؤمنات ) ثمّ يقول التسبيحات الأربع أي (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر) فمن هذه الليلة نُصمّم ونعاهد الله على أن لا نترک هذا العمل الجميل والعظيم ، وانک سترى عن قريب آثاره وبركاته في حياتک المعاشيّة الفردية والاجتماعيّة العلميّة والعمليّة ، كما ترى ذلک إن شاء الله في حياتک المعاديّة ، منذ اليوم الأوّل في حفرة القبر إلى عالم البرزخ ثمّ يوم المحشر، ثمّ الجنان التي اعدّت للمتّقين ، واني بهذا وربّ الكعبة على يقين .
21 ـ عن مولانا الامام الحسين بن علي 7 قال : كان أميرالمؤمنين 7 بالكوفة في الجامع إذ قام رجل من أهل الشام ، فسئله عن مسائل فكان فيما سئله ، أن قال له : أخبرني عن النوم على كم وجه هو؟ فقال : النوم على أربعة أوجهٍ : الأنبياء : تنام على اقفيتها مستقبلة وأعينها لا تنام متوقّعة لوحي الله عزّوجلّ ، والمؤمن ينام على يمينه مستقبل القبلة ، والملوک وأبناؤها على شمائلها ليستمرؤا ما يأكلون ، وإبليس وإخوانه ينام على وجهه منبطحاً.
لقد ذكرنا من قبل ما يشبه هذا الحديث الشريف ، الّا انّه يضاف على ما مرّ أن وحي الأنبياء يختلف كما ورد في الروايات ، ومنه المنام فان رؤيا الأنبياء يعدّ من الوحي الإلهي . كرؤيا ابراهيم الخليل انّه يذبح إسماعيل 8، فتنام الأنبياء على قفاهم مستقبلة ، وأعينهم لا تنام تتوقّع الوحي الإلهي ، وأمّا المؤمن فانه ينام على جنبه الأيمن مستقبل القبلة ، ويضع يده تحت خدّه ، ويقرء الأوراد والأذكار والآيات الواردة عند النوم ، وأمّا الملوک وأبنائهم ومن يحذو حذوهم من أهل الدنيا ومترفيها، فانهم ينامون على شمائلهم أي على جنبهم الأيسر، وإنّما يفعلوا ذلک ليهضم ما أكلوه وما أملوا به بطونهم ، فانّ النوم على الشمال وعلى اليد اليسرى يساعد على هضم الأكل كما ثبت ذلک طبّياً، وأمّا إبليس وإخوانه كالمبذرين ، فانّهم ينامون على وجوههم منبطحين كما نام إبن ملجم المرادي لعنه الله في ليلة ضربة وشهادة أميرالمؤمنين علي 7 في محراب الكوفة سحر ليلة التاسع عشر من شهر رمضان عام أربعين من الهجرة النبويّة ، فالايمان والكفر أو النفاق يترتّب عليها آثار وضعيّة وأحكام تكوينيّة وتشريعيّة ، كما يترتّب عليها حالات ، ربما لم يصل العلم إلى حلّ لغزه وكشف سرّه ، فانّ المؤمن ينام على الأيمن والمنافق أو الكافر وابليس واخوانه من الجن والانس ينامون على وجوههم فأيّ سرّ في ذلک ؟!
فلماذا ينام المؤمن على يمينه ، وابليس واخوانه على بطنه ؟ وان لله في خلقه شؤون ، وسبحان الله عمّا يصفون .
22 ـ عن أميرالمؤمنين علي 7: من أراد أن ينام فانه يضع يده تحت خدّه الأيمن ، ويقرء هذه الدعاء: (بسم الله وضعت جنبي لله على ملّة ابراهيم ودين محمّد، وولاية من افترض الله طاعته ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ) فانّ الله يحفظه من السرّاق والاغتيال وهدم الدار وتستغفر له الملائكة .
انّ الدعاء مخّ العبادة ومفتاح كلّ صلاح وفلاح ، وإنه سلاح المؤمن والأنبياء، وإن الله لا يعبأ بالانسان لو لا دعائه (قُلْ ما يَعْبَوُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاوُكُمْ )[9] ثمّ من
فلسفة الحياة وسرّ الخليقة العبادة كما في قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاِْنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ )[10] والدعاء هو الانقطاع الكامل إلى الله سبحانه وتعالى ، وإنّ الأدعية
والأوراد يُتداعى منها التركيز الباطني على الانقطاع المذكور، وما من شيء إلّا وله دعاء خاص كما لنا أدعية عامّة ، ومن الأدعية عند المنام ما أشار إليه أميرالمؤمنين 7 فان في هذا الدعاء يتبع منه الاخلاص في التوحيد الكامل بالنبوة والامامة ، أي الولاية العظمى لمن افترض الله علينا طاعته ، فنضع جنبنا لله أوّلاً على خطى ونهج ملّة ابراهيم الخليل ، وعلى الدين الاسلامي الحنيف ، دين الله الذي ختم بمحمّد 6 وعلى ولاية من افترض الله طاعته من الأئمّة الأطهار من آل محمّد: ثمّ التسليم إلى الله والرضا بقضاءه وقدره فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، والحمد لله ربّ العالمين .
23 ـ ورد في الحديث الشريف : من أراد أن ينكشف له أمراً في منامه فانه بعد الوضوء ولبس الثياب الطاهرة والنوم على يمينه في مكان طاهر مستقبل القبلة (كما يوضع الميت في قبره ) ناوياً حاجته ، ويقرء السور التالية ، كلّ سورة سبع مرّات وهي: والشمس ، والليل ، والتين ، والتوحيد، والناس ، والفلق ، فانه يصل إلى مراده في الليلة الاولى ، وإلّا فانّه يكرّر العمل إلى سبع ليالٍ .
لقد ورد في الخبر الصادقي 7: خذ من القرآن كلّ شيء لكلّ شيء، فانّه كتاب ينطق بالحق ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، الا أنه إنما يعرف القرآن بتمامه وكماله من خوطب به ، ومن في بيتهم نزل الكتاب ، وهم محمد آل محمّد : الذي بهم عرف الصواب ، فمثل هذه الأحاديث الشريفة تخبر عن واقع بأن العترة الهادية عدل القرآن الكريم . كما ورد في حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين ـ السنّة والشيعة ـ فمثل هذه السور الكريمة بعددها الخاص ، لها ارتباط بعالم الغيب ، وما ينزل من الحوادث من عرش التدبير الإلهي ، حيث المؤمن يصل إلى مقصوده وسؤاله في عالم الرؤيا بمنام صادق فينال بغيته وحاجته ، وهذا من أسرار القرآن الكريم وسوره المباركة .
24 ـ روى إنّ النبي 6 قال لعليّ 7: ما فعلت البارحة يا أبا الحسن ؟ فقال 7: صلّيت ألف ركعة قبل أن أنام ! فقال النبي 6 كيف فعلت ذلک ؟ فقال 7: سمعتک يا رسول الله تقول : من قال عند نومه ثلاثاً: (يفعل الله ما يشاء بقدرته ويحكم ما يُريد بعزّته ) فقد صلّى ألف ركعة ، قال 6: صدقت يا علي[11] .
مثل هذا الثواب الجزيل إنّما هو من باب الجزاء الجسيم ، الذي يناط بكرم الله وجوده وسخائه ، فاذا كانت ليلة القدر الواحدة خير من ألف شهر، فلم لا يعطي لمن يقول هذا الدعاء المختصر عند نومه ثلاث مرّات خالصاً مخلصاً ثواب ألف ركعة في ليلة واحدة ؟ فلا تعجب فانه لا ينقص من خزائنه سبحانه ، بل يزداد جوداً وعطاءً، فانّه أكرم الأكرمين وأجود الأجودين ، ونعم الربّ الكريم العليم العظيم جلّ جلاله وعمّ نواله ، فلا تغفل عن مثل هذه المندوبات والمستحبّات ، فانها تكمل لنا النواقص في الفرائض والواجبات ، كما توجب غفران الذنوب ، وتعديل ما أحدثناه من المطبّات في شوارع حياتنا المعاشيّة والمعاديّة ، وإملاء الحُفر التي أوجدناها في مساحات أعمارنا وأفعالنا.
25 ـ قال الصادق 7: النوم راحة للجسد، والنطق راحة للروح ، والسكوت راحة للعقل[12] .
انّ من أحاديث أهل البيت : لهى من جوامع الكلم ، فيها معاني سامية غزيرة ، فترى حديثاً من كلمتين فقط الّا انّ وراءه خزين عظيم من العلوم والمعارف كقول أميرالمؤمنين علي 7 بالاخلاص يكون الخلاص ، وقال : أخلص تنل ، فخلاص الانسان ونيله معالي المنازل ورفيع المقامات يكون بالاخلاص ، إلّا انّه كما ورد في الحديث الشريف : «الناس كلّهم هلكى إلّا العلماء، والعلماء كلّهم هلكى إلّا العاملون ، والعاملون كلّهم هلكى إلّا المخلصون ، والمخلصون على خطر عظيم » وان الشيطان أقسم بعزّة الله يغوي الناس والبشريّة جميعاً إلّا عباد الله المخلصين ، فانه لا سلطان عليهم فقال : (قالَ فَبِعِزَّتِکَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعيüنَ * إِلّا عِبادَکَ مِنْهُمُ الُْمخْلَصيüنَ )[13] بفتح اللام وهو من طوى مراحل
الاخلاص السبعة كما في علم الأخلاق ، واستخلصه الله خالصة الذكرى الدار الآخرة .
ومن جوامع الكلم هذا الحديث الصادقي الشريف : فان الدنيا دار بلاء وإختبار وفتنة ، ولا راحة فيها، إنما دار الاستراحة المطلقة تلک الجنّة التي عرضها السماوات والأرض ، ولكن مع ذلک الراحة النسبية تتحقّق في دار الدنيا، إذ ان سرورها مشوبة بالحزن ، وراحتها ممزوجة بالتعب ، فمن يتعب في نهاره أو ليله ويرهق جسده بأعمال وأفعال ، فانه يبحث عمّا يريح جسده المنهک والمتعب . فان الله سبحانه جعل راحة جسده في نومه ، فاذا نام استراح جسده ، والنوم بعد النصب والتعب والارهاق والمشاق يكون من ألذّ اللذائذ. ثمّ الانسان مركّب من روح وجسد، فراحة جسده في نومه ، وأمّا راحة روحه أي اذا أراد ان ينفّس عن همومه وغمومه ، فان راحة الروح في النطق والكلام كما ثبت في علم النفس ذلک ، فان الانسان عند ما يتكلّم يخفّف من وطأة الروح وأتعابها.
ثمّ البعد الثالث للانسان عقله الذي إمتاز به عن الحيوانات ، فشرّفه الله بذلک ، فانه يتعب كما يتعب الجسد والروح ، ومن أهم أسباب التعب العقلي الّا هذار والثرثرة في الكلام ، فاذا أراد أن يريح عقله فانّ السكوت راحة العقل
|